لم أكن أعلم بأنهم سيعطونني هذه الغرفة .. لقد خدعوني ..!
****
منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه بيتنا الجديد و أنا أعلم بأن هناك شيء ما غريب بشأن هذا البيت، لا أعرف حقا لماذا أصر أبي أن يجنح بنا بعيدا عن المدينة إلى منطقة ذات بيوت حكومية صغيرة و متلاصقة و بعيدة مثل هذه؟
عندما فتح أخي الأكبر باب البيت شعرت بهواء بارد يلفح وجهي، مع أننا كنا في شهر يوليو الحارق، إنه لهيب الشمس في الخارج يشوي أي قطعة لحم مسكينة تقف تحت رحمته أكثر من عشرة دقائق، فكيف إذا أتى هذا الهواء البارد من هذا البيت ذو الأثاث البالي ؟
أتذكر أمي عندما أبلغها أبي بخبر الخروج من البيت، كان قد اتخذ قراره و كان حازما كثيرا فيما يقوله .. أو يأمره :
- سنخرج من هذا البيت و سننتقل لآخر في منطقة ( .... ) ولا أريد أن أسمع معارضة من أحد
هنا خضعت أمي دون نقاش لإرادته، رغم ما عرفناه منها أنا و أخوتي من عناد قوي لا يهزمه عادة تنعت أبي و إلحاحه. هناك شيء ما غير طبيعي .. هناك شيء ما يخفيانه أمي و أبي عنا.
في بيتنا القديم، و قبل أن نخرج منه بأسبوع، انتشر نمل أسود .. و صراصير سوداء خرجت من كل مكان، من فتحات الحوائط المتشققة، و من أرضيات البيت المتكسرة، و من الجحور الصغيرة المخفية داخل الحمام. فزعت أختي و أصرت على أن نخرج من البيت، إن رقتها و حساسيتها المفرطتان لا تتحملان العيش في بيت قذر كهذا.
طلبت أمي في اليوم التالي شركة النظافة التي أتت بدورها و رشت المنزل و عقمته من كل الحشرات التي تتربص به. و لكننا أبدا لم نتوقع أن تتحقق أمنية أختي بهذه الطريقة السريعة، فبعد ليلة واحدة فقط من يوم حادث الحشرات هذا .. وافق أبي على طلب أختي و قرر أن نخرج من البيت .. كيف؟ و لماذا؟ و إلى أين سنذهب ؟ اكتفى أبي بالصمت فقط، و حزم أمره .. و قال .. سنخرج .
نعم .. لم أكن أعلم بأنهم سيعطونني هذه الغرفة .. لقد خدعوني ..!
لقد كان اتفاقنا منذ البداية أنا و أخوتي أن تكون الغرفة القريبة من غرفة أمي و أبي لي، فهما يعرفان كم مرة في الليل أنهض فزعا من تلك الكوابيس التي أراها دائما عندما أخوض تجربة النوم في بيت غير بيتنا. فكم من مرة داهمتني الكوابيس في تلك الفنادق ذات النجوم الثلاثة عندما كنا نسافر أنا و أهلي، و كم مرة و مرة صحوت وأنا أختنق و أبكي من كابوس استفرد بي عندما كنا نزور أقاربنا في الشاليه و ننام عندهم، أو عندما كنا نذهب إلى البر و ننام في المخيمات .. لقد كانت تجارب لا رحمة فيها .. تجارب كنت أرى فيها الموت، لذلك كنت أفضل دائما أن أكون قريبا من أمي و أبي حتى أستنجد بهما ليلا عندما تطبق على أنفاسي كوابيس الليل الأسود.
والآن يتعمد أخوتي إعطائي هذه الغرفة البعيدة .. يا إلهي إنها الغرفة الوحيدة في الدور الثالث من البيت! وليس دورا كاملا .. إنه نصف دور بنوه أصحاب البيت قبل أن يتركوه لأسباب مجهولة. أغلب الظن أنهم بنوه لخادمتهم أو لتكون مخزنا لأشيائهم المهملة و الزائدة .. أو ربما هي غرفة أو نصف دور للإيجار.
اليوم هو يومنا الأول في هذا البيت الغريب، و أنا وحدي في هذا النصف دور .. وحدي في غرفة ليست غرفتي .. و على سرير ليس سريري، اليوم هو يوم موعدي مع كوابيسي، ستزورني حتما .. سيطل شبح الكابوس برداء أسود ذو قبعة فضفاضة ملتصقة بثوبه من الخلف، يضعها على رأسه لتقع مقدمتها على وجهه و تغطي نصف ملامحه، يداه كأيدي الهيكل العظمي .. اليوم سأنام .. و ربما لن أصحو ..
ذهبت إلى السرير، و اندسست تحت الغطاء، أريد أن أغمض عيني، و لكنني لا أريد أن أرى الظلمة، أريد أن أغمض عيني ولكنني لا أريد أن أفتحها وأرى الكابوس أمامي .. واقفا في الظلام، يحمل خطاف أبيض .. ربما هذه المرة يريد أن يقطع رأسي .. آسف أنني أطلت عليكم الحديث .. ولكن ربما رسالتي هذه ستكون الأخيرة .. من يعلم .. فربما بعد هذه الليلة لن يراني أحد ..!
التوقيع/ سالم – العمر 13 سنة
****
وعندما انتهى من كتابة رسالته، أطفأ سالم المصباح الصغير الذي كان في يده و أخرج رأسه من تحت اللحاف الذي كان يسنده برأسه مثل عامود الخيمة الصغيرة، و وضع الرسالة و المصباح إلى قربه، ثم استسلم و أغمض عينيه .
مرت اللحظات .. بطيئة ... طويلة .. لا يسمع فيها سوى الصمت. ثم نام سالم قرير العين، سحبته خيوط النوم بعيدا عن مخاوفه.
الليل أسود .. و سكون مطبق على البيت الجديد، الأهل نائمون في غرفهم الجديدة، و سالم وحده في العلية .. في تلك الغرفة الصغيرة. فجأة ... انتشر هواء بارد في الغرفة، تحركت الستارة المعلقة على النافذة الصغيرة، اهتز المصباح الذي وضعه سالم إلى قربه .. فوقع .. لكنه لم يصدر صوت .. لقد وقع على الوسادة الصغيرة التي سبقت المصباح بالوقوع قبل دقائق من فوق سرير سالم .. تحرك سالم دون شعور وهو يتقلب فوق السرير، ثم فجأة .. أحس سالم بشيء .. إنه شيء ما يركل سريره من الأسفل، لم تستوعب مخيلة سالم الموقف، ظن أنه الكابوس .. ظن أنه النوم .. ظن أنه ..... يحلم !
ولكن سالم شعر بالبرد يقترب أكثر، تقلب على الفراش مرة أخرى .. وكلما تحرك .. شعر بشيء ما يركل جسده النحيل من تحت السرير .. خاف سالم .. فتح نصف عين .. تقلب على جنبه الأيسر .. شعر بالركلة هذه المرة و لكنها كانت أقوى .. إنها فعلا أقوى حتى أنه شعر ببعض الألم في خاصرته .. خاف سالم أكثر .. مد يده ليأخذ المصباح .. لكنه لم يكن في مكانه .. لقد وقع المصباح .. "لماذا وقعت الآن؟" همس سالم في سره .. مد يده وسط العتمة يبحث .. تخبط بيده في كل مكان .. هنا و هناك .. لم يجده .. لكنه تذكر .. نعم .. ربما يكون قد سقط على الأرض .. سأمد يدي و أحاول الوصول إليه على الأرض .. مد سالم يده .. تخبط بها ناحية اليمين .. تخبط بها ناحية اليسار .. لامست يده الوسادة الصغيرة، لامست يده أرضية الغرفة فأحس بالبرد الذي تشبع به السيراميك .. مده يده أكثر .. خاف سالم أن يكون المصباح تدحرج لأسفل السرير.. مد يده ليصل إليه .. مدها أكثر يبحث تحت السرير .. و فجأة .. أطبقت يد على يده .. أحسها يد هيكل عظمي تعتصر لحم يده .. فزع سالم .. و بحركة لا إرادية أرد أن يسحب يده .. لكنه لم يستطيع .. لقد أمسكته اليد .. لقد أمسكته بقوة .. أراد أن يصرخ .. و عندما فتح فمه .. شعر بآلاف الأسراب من النمل الأسود تخرج من فمه .. و رآها تنتشر في كل مكان .. على وجهه .. ثيابه .. يديه .. رجليه .. سريره .. الحوائط .. الأرض ..
و في اليوم التالي .. شاع خبر في البلد .. عن فقدان طفل اسمه سالم من بيت ذويه في منتصف الليل .. و أوردوا في الأخبار أنه ترك رسالة تصف خوفه من كوابيس الليل .. وقد نوه الأهل إلى أنه يمتلك مخيلة واسعة و يحب الكتابة و يقرأ بنهم . لم يجدوا أدلة تذكر .. عدا نمل أسود كثير انتشر في البيت دون أن تستطيع فرق مكافحة الحشرات أن تقضي عليه .. أما تحت السرير .. فلم يجد رجال الشرطة دليل يدلهم إليه .. عدا شيء واحد .. عظمة من يد بني آدم .. مات من سنين طويلة !
- تمت -
الكاتب/ عبدالعزيز الحشاش
بريدي
مودتي